من رحمة الله أنه خفف عنا ولم تأت بعض الأحكام ملزمة لنا؛ لأنها إما أن تكون من باب ما فرض فتجب، أو من باب ما منع فتحرم، فما سكت عنه رحمة من غير نسيان فلا ندقق ونتعمق، ومن باب أولى يحرم أن نتجادل ونتهاجر ونتدابر، ونتقاطع فيه، ومن هنا جاء نهي السلف عن امتحان العامة من المسلمين بالمسائل الدقيقة العويصة؛ لأن ذلك من قبيل التنفير، وقد كتب بعض الأئمة كتاب الامتحان أنكر شيخ الإسلام رحمه الله جملته -وإلا فهناك مسائل صحيحة- في كتاب الإيمان وقال: لا يجوز امتحان المسلمين بالأمور الدقيقة والمسائل العميقة، فهذه إنما يسأل عنها العلماء، فأنت لو علمت عالماً محدثاً قرأ الأحاديث في الساق أو غير ذلك من الصفات فإنك تسأله إن كان ثمة مصلحة من السؤال، كأن يريد أن يعين إماماً أو قاضياً للمسلمين، وحتى لا يولى على المسلمين المبتدع فحينها يمكن أن يسأل عن الساق أو الصورة أو ما أشبه ذلك، لكن امتحان العامة بهذه الأمور لا يجوز ولا يصح، ثم كيف بك لو انقسموا، والعامة من الصعب إفهامهم، بخلاف مجادلة العلماء، فهي من أسهل ما يكون على من أعطاه الله علماً أن يناظر العلماء، ولذا ينقل عن الشافعي : (ناظرت عالماً فغلبته، وناظرني جاهل فغلبني) فالعوام لا يدركون معنى كون الحديث ضعيفاً أو صحيحاً، فهم في تصورهم أن كل حديث ينسب للرسول فهو صحيح؛ لذا نتحرز عن إثارة بعض الأمور بين العامة، فيجب ألا نلقي عليهم إلا الحق وما استنبط منه، ولا يمنعنا عن ذلك أن العوام يحبون الإسرائيليات والغرائب والمنامات والأحلام، لأنهم -وبعد فترة- سوف تصبح قاعدتهم: إن لم تأت لهم بدليل على كل شيء من حلم أو منام لا يقبلون منك، حتى لو قلت لهم: قال الله تعالى وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتأثرون، والإشكال يبدأ من العوام ومن الشباب الذين ألفوا مثل هذه الأمور حتى أصبح من أشق الأشياء عنده أن يسمع شريطاً لـابن باز أو ابن عثيمين في أي قضية من القضايا العلمية، ولكن يسمع ما شاء من الأناشيد والحكايات والقصص! فإذا كنا نحن طلبة العلم عندنا ما عند العوام من زهد في العلم واتبعنا مثل هذه الأمور إلى أين نصل؟ لاشك أن العلم فيه مشقة وهو كذلك لكن في كل العصور، العلماء دائماً قلة، وهم بالنسبة للعوام قليل جداً، وهم نخبة الأمة، أما إن أردت مجرد القصص فإن في العالم الإسلامي من حفظة الحكايات والقصص الكثير والكثير، وهو أمر مقطوع به، فمثلاً لو تحدثت في أي مجلس من المجالس عن شيء من الدين معلوم بالضرورة كتحريم الخمر أو المخدرات فإنك تجد الكثير ممن يوردون قصصاً واقعية تشهد لذلك، فهل نجعلها أساس التحريم؟! لا. وإنما غاية ما يقال: إنها من مطابقة الواقع للحق، ولا يقال: إن الحق قام على ذلك.
أقصد بهذا أن مجاراة الناس مسألة لا تنتهي، لكن الشيء الذي لا يستطيع الناس أن يجاروا به، ولا أهل البدع أن يأتوا به؛ هو الحق والعلم من الكتاب والسنة، وإلى هذا يرد الناس جميعاً.
يقول الشارح رحمه الله: [فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً وإثباتاً -والحالة هذه- أولى] الأولى لنا أن نسكت، ثم قال: [ولا يقال: إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة] أي: أليس عندنا مسائل من الكتاب والسنة اختلفت الأقوال فيها، فما المانع أن تبحث هذه أيضاً ونرجح الأقوال فيها يقول: لا يقال ذلك [لأن الأدلة هنا متكافئة على ما أشير إليه إن شاء الله تعالى].